الانتماء للوطن المسلم في المنظور الشرعي
الحمد لله رب العالمين ، وبه نستعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، المبعوث رحمة للعالمين ، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين ، وبعد :
فيقول المولى عز وجل : { واعتصموا بحبل جمعياً ولا تفرقوا } آل عمران : 103 .
ويقول تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } النساء : 59 .
ويقول تبارك وتعالى : {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً } الفتح : 10 .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال : (( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله )) ، متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل ، ورجل بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفّي له وإلا لم يف له ، ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها” . متفق عليه .
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) ، أخرجه الإمام أحمد ـ واللفظ له ـ ، وأبو داود ، والترمذي ، وغيرهم، والحديث صحيح بمجموع طرقه .
الدلالة الموضوعية
الانتماء للوطن الإسلامي وتحقيق الأمن الفكري ، هما من : مقتضى البيعة الشرعية لولاة الأمر ولزوم الجماعة القائم على التعاون على البر والتقوى ، وتحقيق الخير والنفع والفلاح والعزة للجميع في الدارين.
من أجل ذلك جعلها أئمة سلف الأمة ومن تبعهم بإحسان من أصول عقيدة التوحيد التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة النبوية المشرفة التي تقدم ذكر بعضها .
والأصل الانتماء والبيعة لإمام واحد في وطن إسلامي جامع للمسلمين ، لكن لما تعذر ذلك في كثير من العصور ، وتباعدت بهم البلدان ، واستقل كل أهل بلد منهم بولي أمر متبع ، أصبح لكل ولي أمر جميع أحكام وحقوق البيعة والسمع والطاعة له على رعيته في وطنه .
قال شيخ الإسلام : (( السنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه ، فإذا فرض أن الأمة …. كان لها عدة أئمة ، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق … فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم )) ( مجموع الفتاوى 34 / 175) .
وقال العلامة الشوكاني : (( أما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان ، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته ، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه ، وكذلك صاحب القطر الآخر ، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ، ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ، ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار ، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ، ولا يدري من قام منهم أو مات ، فالتكليف بالطاعة – والحال هذه – تكليف بما لا يطاق ، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد ، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته ، وهكذا العكس ، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن ، وهكذا العكس ، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية ، والمطابق لما تدل عليه الأدلة ، ودع عنك ما يقال في مخالفته ، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام ، وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة ؛ لأنه لا يعقلها والله المستعان )) ( الروضة الندية 2/773 ) .
ومن صور نقض البيعة الشرعية وشق عصى الطاعة لولي الأمر ومفارقة الجماعة : الانتماءات والتوجهات المشبوهة التي تنفرد بأمرها دون رجوع إلى ولي الأمر إلا فيما وافق أهواءهم سواء أقروا له بالولاية أم لم يقروا بها ؛ لأن صنيع المقر بها يعتبر صورياً والحال هذه ، سيما في هذه العصور المتأخرة التي يكون الفرق بين هذين التوجهين فرقاً صورياً اسمياً كالفرق بين الخوارج والمعتزلة في فاعل الكبيرة ، فالخوارج تسميه كافراً والمعتزلة تسميه فاسقاً لكنهم يعطونه أحكام الكافر .
وعلى هذه الطريقة البدعية الضالة سار أصحاب التوجهات المعاصرة المشبوهة التي هي في أحسن أحوالها ـ وهي ضلال مبين ـ على طريقة البغاة الذين انفردوا بأمرهم وشذوا بالحل والعقد دون ولي الأمر ، أو أرادوا الخروج عليه أو مخالفته أو الانكار عليه بالقوة أو الاعتراض عليه في ولايته ، وحقوقه ، ومعاملته ، ومعاقدته ، ومعاهدته ، أو أسهموا في إساءة الظن به ، أو إثارة الفتنة بينه وبين رعيته ، أو اثارتها في رعيته .
قال العلامة محمد بن عبد اللطيف : (( مما أدخل الشيطان : إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له ، فإن هذا من أعظم المعاصي ، وهو من دين الجاهلية الذين لا يعرفون السمع والطاعة ديناً ، بل كل منهم يَسْتَبدّ برأيه )) (مجموعة رسائل وفتاوى مهمة لعلماء نجد 36 ) .
وهم بذلك مخالفون لطريقة أهل الصراط المستقيم ولسبيل المؤمنين في عقيدة السمع والطاعة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين ، وصنيع المفارقين لهم وتدبيرهم في السر والعلن أعظم الغدر الذي جاء الوعيد الشديد لأهله .
فقد أخرج الإمام البخاري من رواية نافع قال : (( لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده ، فقال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :”ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة”، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ، ثم ينصب له القتال ، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه )). ومرفوعه في صحيح مسلم أيضاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( أهل العلم والدين والفضل لا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من : معصية ولاة الأمور ، وغشهم ، والخروج عليهم بوجه من الوجوه ، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ومن سيرة غيرهم ، وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : “يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدره” ، قال : “وإن هذا من أعظم الغدر” يعني بإمام المسلمين ، وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته” (مجموع الفتاوى 35/12) .
وقال العماد ابن كثير : “الحكمة في هذا : أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل” (تفسير القرآن العظيم 2/175) .
من أجل ذلك كان الانتماء إلى ولاة الأمر في الوطن المسلم والقيام بحقوقهم على الوجه المطلوب المتقن من أصول النصيحة التي يقوم عليها الدين الإسلامي ، وأسس الأمن الفكري في المنظور الشرعي .
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “الدين : النصيحة ، قلنا : لمن؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولائمة المسلمين ، وعامتهم” .
قال ابن الصلاح : (( النصيحة كلمة جامعة تتضمن : قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً ، و”النصيحة لأئمة المسلمين” أي لخلفائهم وقادتهم : معاونتهم على الحق ، وطاعتهم فيه ، وتنبيههم وتذكيرهم في رفق ولطف ، ومجانبة الخروج عليهم ، والدعاء لهم بالتوفيق ، وحث الأخيار على ذلك )) ( صيانة صحيح مسلم 221) .
ومن مقتضى البيعة الشرعية لولاة الأمر والانتماء للوطن المسلم : تحريم معصية ولي الأمر والاعتراض عليهم في المعروف ، ونقض عهده ، ومعاهداته ، قال العلامة محمد بن عبد اللطيف : (( قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : ” اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ” ، فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته ، وفي معاملته ، وفي معاقدته ، ومعاهدته ؛ لأنه : نائب المسلمين ، والناظر في مصالحهم ، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم ؛ لأن بولايته يستقيم نظام الدين ، وتتفق كلمة المسلمين )) (مجموعة رسائل وفتاوى مهمة لعلماء نجد 36 ) .
وإذا كانت الطاعة واجبة لسلاطين الجور منهم ، فإنها لولاة الأمر أهل العدل والخير من باب أولى .
وهي من النعم الكبيرة التي حضي بها المسلمون في المملكة العربية السعودية مهبط الوحي ، ومهد الرسالة المحمدية الخاتمة ، وبلد الحرمين الشريفين ، ورائدة العالم الإسلامي المعاصر ، واحدى دول الإسلام عبر تاريخه المعدودة على أصابع اليد ، والمتميزة بصفا العقيدة والاستقامة على شرع الله وبذل الجهود الكبيرة المستمرة المحققة لخدمته وعزه .
في ظل قيادة راشدة ـ وفقها الله ـ حكمت شرع الله تعالى ، وافتخرت بخدمة دينه ، ورفعت لواء توحيده ، وسارت فيه بالوسطية والاعتدال ، مع رقي وتقدم وأخذ بالنافع ، وجمع بين خيري الدنيا والآخرة .
ولا غرابة في دولة كان أصل نشأتها : تلاحم الخير والتقوى في دعوة التوحيد التي حمل لواءها آل سعود ـ أثابهم الله ـ يتمم لاحقهم خير سابقهم .
قال العلامة محمد بن عبد اللطيف فيهم : (( قد منّ الله عليكم بإمامة ولايته : ولاية دينية ، وقد بذل النصح لعامة رعيته من المسلمين خصوصاً المتدينين بالإحسان إليهم ، ونفعهم ، وبناء مساجدهم ، وبث الدعاة فيهم ، والإغضاء عن زلاتهم وجهالاتهم ، ووجود هذا في آخر الزمان من أعظم ما أنعم الله به على أهل الجزيرة ، فيجب شكر هذه النعمة ، ومراعاتها ، والقيام بنصرته ، والنصح له باطناً وظاهراً ، فلا يجوز الافتيات عليه ، ولا المضي في شئ من الأمور إلا بإذنه ، ومن افتات عليه ، فقد سعى في شق عصا المسلمين ، وفارق جماعتهم )) ( مجموعة رسائل وفتاوى مهمة لعلماء نجد 36 ) .
أسأل الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم أن يهدينا صراطه المستقيم , وأن يوفقنا أجمعين لكل خير وفلاح لنا ، وخدمة وعز لديننا وولاة أمرنا ووطننا وأمتنا ، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/13249.html#ixzz2ve2LIySV
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق